كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَجَعَلْنَا} عطف على {جَعَلْنَا} السابق {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قدامهم {سَدّا} عظيمًا وقيل نوعًا من السد {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من ورائهم {سَدّا} كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات {فأغشيناهم} فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم، وعن مجاهد {فأغشيناهم} فألبسنا أبصارهم غشاوة {فَهُمُ} بسبب ذلك {لاَّ يُبْصِرُونَ} لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلًا.
وقرأ جمع من السبعة وغيرهم {سَدّا} بضم السين وهي لغة فيه، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم، وقيل بالعكس.
وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وابن مقسم {فأغشيانهم} بالعين من العشا وهو ضعف البصر، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى: {تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا} الخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] الخ من سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهم السلام شامخين برءوسهم غير خاضعين لما جاءوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقًا ذاتيًا وطلبته طلبًا استعداديًا فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه، وإذا قايست بين ذواتهم وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلًا لم تكد تجد فرقًا {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية؛ وفي الانتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبهًا بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبهًا بالإقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه، وقوله تعالى: {فَهِىَ إِلَى الاذقان} [يس: 8] تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبهًا بسد من خلقهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبهًا بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى: {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} [الشعراء: 4] ولم يذكر المراد بجعل السد، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحًا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكية، واختار بعضهم كون {إِنَّا جَعَلْنَا} الخ تمثيلًا مسوقًا لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم ارعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم، وجوز في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا} الخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلًا له وأن يكون تمثيلًا مستقلًا فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئًا قطعًا كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات.
وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا} الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، ولا يضعف هذا كما زعم ابن عطية قوله تعالى: {فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} لأن بصر الكافر يومئذٍ حديد يرى قبح حاله، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} [الإسراء: 7 9] وقوله سبحانه: {قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى} [طه: 125] فإما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] كناية عن إدراكه ما يئول إليه حتى كأنه يبصره، واعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبيًا في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] قد دغدغ فيه، والإنصاف أنه خلاف الظاهر، وقال الضحاك: والفراء في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أعناقهم أغلالا} [يس: 8] استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله تعالى كما قال سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 9 2] ولعله جعل الجملة الثانية استعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه، ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبيًا في البين في غاية الظهور، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله تعالى والرحم يا محمد قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس {والقرآن الحكيم} إلى قوله سبحانه: {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يس: 1-10] فلم يؤمن من ذلك النفر أحد، وروي أن الآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجرًا لينال بهاما يريد برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم طمس الله تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال: لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيًا عليه فقيل له: ما شأنك؟ قال: عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلًا أعظم منه حال بيني وبينه فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني فجعل الغل يكون استعارة عن منع من أراد أذاه عليه الصلاة والسلام وجعل السد استعارة عن سلب قوة الإبصار كما قيل، وقال السدي: السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية، وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها غير ظاهر، ولعله باعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد؛ ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل.
{وَسَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه حسبما مر تحقيقه في أوائل سورة البقرة، والظاهر أن العطف على {إِنَّا جَعَلْنَا} [يس: 8] وكأنه جىء به للتصريح بما هم عليه في أنفسهم بعد الإشارة إليه فيما تقدم بناءً على أنه مما يستتبع الجعل المذكور.
وقريب منه القول بأن ما تقدم لبيان حالهم المجعول وهذا لبيان حالهم من غير ملاحظة جعل وفيه تمهيد لقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ} [يس: 11]. إلخ.
وفي إرشاد العقل السليم هو بيان لشأنهم بطريق التصريح إثر بيانه بطريق التمثيل، وفي الحواشي الخفاجية لم يورد بالفاء مع ترتبه على ما قبله إما تفويضًا لذهن السامع أو لأنه غير مقصود هنا انتهى.
وانظر هل تجد مانعًا من العطف على {لاَّ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] ليكون خبرًا لهم أيضًا داخلًا في حيز الفاء والتفريع على ما تقدم كأنه قيل: فهم سواء عليهم الخ، واختلاف الجملتين بالاسمية والفعلية لا أراك تعده مانعًا، وقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ} استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه.
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}.
ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقال سبحانه: {إِنَّمَا تُنذِرُ} أي إنذارًا مستتبعًا للأثر {مَنِ اتبع الذكر} أي القرآن كما روي عن قتادة بالتأمل فيه والعمل به، وقيل: الوعظَ، واتبع بمعنى يتبع، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا، ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين وبالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الاتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: المراد من اتبع في علم الله تعالى وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم {وَخشِىَ الرحمن} أي عقابه ولم يغتر برحمته عز وجل فإنه سبحانه مع عظم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى: {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر: 50 49].
ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه {بالغيب} حال من المضاف المقدر في نظم الكلام كما أشرنا إليه أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسًا بالغيب أي غائبًا عنه، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله، ويجوز أن يكون حالًا من فاعل {خَشِىَ} أي خشي عقاب الرحمن غائبًا عن العقاب غير مشاهد له أو خشي غائبًا عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية قلما تسلم عن الرياء، وبعضهم فسر الغيب بالقلب وجعل الجار متعلقًا بخشي أي خشي في قلبه ولم يكن مظهرًا للخشية وليس بخاش، قيل: ويجوز جعله حالًا من {الرحمن} ولا يخفى حاله، والكلام في خشي على طرز الكلام في {أَتَّبِعُ} {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} عظيمة لما سلف، وقيل: لما يفرط منه {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} حسن لا يقادر قدره لما أسلف، والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية.
وفي البحر لما أجدت فيه النذارة فبشره الخ فلا تغفل، وعن قتادة تفسير الأجر الكريم بالجنة والمراد نعيمها الشامل لما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأجل جميع ذلك رؤية الله عز وجل.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى} الخ تذييل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفعين بالإنذار ترهيبًا وترغيبًا ووعيدًا ووعدًا، وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية، وما ألطف هذا الضمير الذي عكسه كطرده ههنا، وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل، والتأكيد للاعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار فإن الكفرة كانوا يقولون: {إِنْ هي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] أي إنا نحن نحيي الأموات جميعًا ببعثهم يوم القيامة {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة {وَءاثَارَهُمْ} التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء في سبيل الله تعالى بنون وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مبادىء الشر والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين.
أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئًا ثم تلا {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ}» وعن أنس أنه قال في الآية: هذا في الخطو يوم الجمعة، وفسر بعضهم الآثار بالخطأ إلى المساجد مطلقًا لما أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ} فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه يكتب آثاركم» ثم تلا عليهم الآية فتركوا.
وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن ماجه وغيرهما عن ابن عباس قال كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبًا من المسجد فنزلت {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ} فقالوا بل: نمكث مكاننا.
وأنت تعلم أنه لا دلالة فيما ذكر على أن الآثار هي الخطأ لا غير وقصارى ما يدل عليه أنها من الآثار فلتحمل الآثار على ما يعملها وغيرها، واستدل بهذين الخبرين ونحوهما على أن الآية مدنية.
وقال أبو حيان: ليس ذلك زعمًا صحيحًا وشنع عليه بما ورد مما يدل على ذلك، وانتصر له الخفاجي بأن الحديث الدال معارض بما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية ولم يذكر أنها نزلت فيهم وقراءته عليه الصلاة والسلام لا تنافي تقدم النزول ومراد أبي حيان هذا لا أنه أنكر أصل الحديث، ولا يخفى أن الحديثين السابقين ظاهران في أن الآية نزلت يومئذ وليس في حديث الصحيحين ما يعارض ذلك، والعجب من الخفاجي كيف خفي عليه هذا، وقيل ما قدموا من النيات وآثارهم من الأعمال، والظاهر أن المراد بالكتابة الكتابة في صحف الملائكة الكرام الكاتبين ولكونها بأمره عز وجل أسندت إليه سبحانه، وأخرت في الذكر عن الأحياء مع أنها مقدمة عليه لأن أثرها إنما يظهر بعده وعلى هذا يضعف تفسير ما قدموا بالنيات بناء على ما يدل عليه بعض الأخبار من أن النيات لا تطلع عليها الملائكة عليهم السلام ولا يؤمرون بكتابتها.
وفسر بعضهم الكتابة بالحفظ أي نحفظ ذلك ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب، ولعلك تختار أن كتابة ما قدموا وآثارهم كناية عن مجازاتهم عليها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر وحينئذ فوجه ذكرها بعد الأحياء ظاهر.
وعن الحسن والضحاك أن إحياء الله تعالى الموتى أن يخرجهم من الشرك إلى الايمان وجعلا الموت مجازًا عن الجهل، وتعريف {الموتى} للعهد والكلام عليه توكيد للوعد المبشر به كأنه قيل: إنما ينفع إنذارك في هؤلاء لأنا نحييهم ونكتب صالح أعمالهم وآثارهم ولا يخفى ما في ذلك من البعد.
وقرأ زر ومسروق {ويكتب} بالياء مبنيًا للمفعول {قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ} بالرفع {وَكُلَّ شىْء} من الأشياء كائنًا ما كان، والنصب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء {أحصيناه} أي بيناه وحفظناه؛ وأصل الإحصاء العد ثم تجوز به عما ذكر لأن العد لأجله.
{فِى إِمَامٍ} أي أصل عظيم الشأن يؤتم ويقتدى به ويتبع ولا يخالف {مُّبِينٌ} مظهر لما كان وسيكون، وهو على ما في البحر حكاية عن مجاهد وقتادة وابن زيد اللوح المحفوظ، وبيان كل شيء فيه إذا حمل العموم على حقيقته بحيث يشمل حوادث الجنة وما يتجدد لأهلها من دون انقطاع على ما نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع لكنه على طرز أعلا وأشرف، ونحو هذا ما قال غير واحد من اشتمال القرآن الكريم على كل شيء حتى أسماء الملوك ومدد ملكهم أو يقال إن بيان ذلك فيه ليس دفعة واحدة بل دفعات بأن يبين فيه جملة من الأشياء كحوادث ألف سنة مثلًا ثم تمحى عند تمام الألف ويبين فيه جملة أخرى كحوادث ألف أخرى وهكذا، والداعي لما ذكر أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناه الأبعاد كما تشهد به الأدلة وبيان كل شيء فيه على الوجه المعروف لنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفًا لغير المتناهى وهو محال بالبديهة.
وإذا أريد بكل شيء الأشياء التي في هذه النشأة وأفعال العباد وأحوالهم فيها فلا إشكال في البيان على الوجه المعروف دفعة.
والذي يترجح عندي أن ما كتب في اللوح ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهو متناه وبعض الآثار تشهد بذلك والمطلق منها محمول على المقيد، وحقيقة اللوح لم يرد فيها ما يفيد القطع ولذا نمسك عن تعيينها، وكون أحد وجهيه ياقوتة حمراء والثاني زمرة خضراء جاء في بعض الآثار ولا جزم لنا بصحته، وكونه أحد المجردات وما من شيء إلا وهو يعلمه بالفعل مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين وإنما هو من تخيلات الفلاسفة ومن حذا حذوهم فلا ينبغي أن يعول عليه، وفسر بعضهم الإمام المبني بعلمه تعالى الأزلي كما فسر أم الكتاب في قوله تعالى: {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} به وهو أصل لا يكون في صفوف صنوف الممكنات ما يخالفه كما يلوح به قول الشافعي:
خلقت العباد على ما علمت ** ففي العلم يجري الفتى والمسن

ووصفه بمبين لأنه مظهر فقد قالوا: العلم صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أو لأن إظهار الأشياء من خزائن العدم يكون بعد تعلقه فإن القدرة إنما تتعلق بالشيء بعد العلم فالشيء يعلم ثم يراد ثم تعلق القدرة بإيجاده فيوجد، ولا يخفى ما في هذا التفسير من ارتكاب خلاف الظاهر وعليه فلا كلام في العموم، نعم في كيفية وجود الأشياء في علمه تعالى كلام طويل محله كتب الكلام.
وعن الحسن أنه أريد به صحف الأعمال وليس بذاك.
وحكى لي عن بعض غلاة الشيعة أن المراد بالإمام المبين علي كرم الله تعالى وجهه وإحصاء كل شيء فيه من باب:
ليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

ومنهم من يزعم أن ذلك على معنى جعله كرم الله تعالى وجهه خزانة للمعلومات على نحو اللوح المحفوظ، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الجهل بالكتاب الجليل نسأل الله تعالى العفو والعافية، ويمكن أن يقال: إنهم أرادوا بذلك نحو ما أراده المتصوفة في إطلاقهم الكتاب المبين على الإنسان الكامل اصطلاحًا منهم على ذلك فيهون أمر الجهل، وكمال علي كرم الله تعالى وجهه لا ينكره إلا ناقص العقل عديم الدين.
وقرأ أبو السمال {وَكُلٌّ} بالرفع على الابتداء. اهـ.